أَيَديُولُوجْيَا التَّحْلِيْل النَّحْوِيّ عِنْدَ الفَارَابِي (ت339هـ) فِي كِتَابِهِ (الألفَاظ المُسْتَعْمَلَة فِي المَنْطِقِ)

الملخص

تُقعَّدُ القواعدُ في اللغةِ العَربيَّةِ بِنَاءً على نُصوصِ القُرآنِ الكريمِ واستقرَاءِ كَلامِ العربِ، ثُمَّ تُجمَعُ تلك القواعدُ في أبوابٍ مُوزَّعةٍ بِحَسبِ أقسامِ الكلامِ وهي الاسمُ والفِعلُ والحَرفُ، والنُّحاةُ في صياغتِهِم تلك القواعدِ يَلتفتونَ إلى القوالبِ الشَّكليَّةِ، والبناءِ التَّركيبي والعملِ النَّحوي في النُّصوصِ الفصيحةِ من شِعرٍ ونَثرٍ، وهم يُحاولونَ في المراحلِ الأولى لنشوءِ النَّحوِ العربي أنْ لا يَخْلُطُوا القواعدَ النَّحويَّةَ بعلومٍ أخرى تُؤثِّرُ في صِياغتِهَا، غيرَ أنَّ الأفُقَ العلميَّ تغيَّرَ في البلادِ العربيَّةِ بفعلِ الثقافاتِ الوافدةِ إليها وخُصوصَاً الثقافة اليونانية، إذ عَكَفَ بَعضُ العلماءِ على دراسةِ التُّراثِ اليوناني وتوظيفِهِ في جُملةٍ من علومِ العربيَّةِ ومنها النَّحو، ومن أبرزِ العُلماءِ في القرنِ الرَّابعِ الهجري أبو نَصْرٍ الفارابي، إذْ عَمَدَ إلى إدخالِ المفاهيمِ المنطقيَّةِ والتَّحليلِ الفَلسَفي في دِراسةِ قواعدِ العربيَّةِ، والانتفاعِ بذلك في شرحِ المسائلِ النَّحويَّةِ العربيَّةِ، واستعمالِ مُصطلحاتِهِم في الأفعَالِ والحُروفِ.

أمَّا أهمُّ النَّتائجِ التي وَصَلَ إليها البحثُ فهي:

1/ أثبَتَ البحثُ أنَّ التَّحليلَ النَّحويَّ عند الفارابي اتجه إلى أصْلِ القواعدِ النَّحويَّةِ، وقد اعتَمَدَ الفارابيُّ في تحليلِهِ ذلك على ترابطِ المنطقِ بالنَّحوِ، تَبَعَاً لثقافتِهِ الفلسفيَّةِ والمنطقيَّةِ، فيَعتقدُ أنَّ الألفاظَ الدَّالةَ وإنْ كانتْ أحدُ الموجوداتِ التي يُمكنُ أنْ تُعْقَلَ، فإنَّ صناعةَ النَّحوِ ليستْ تُعرِّفها على أنَّها مَعانٍ معقولةٍ، لكنَّها دالَّةٌ على المعاني المعقولةِ.

2/ أَوْضَحَ البحثُ أنَّ المناطقةَ- ومنهم الفارابيُّ- يستعملونَ بَعضَ المصطلحاتِ النَّحويَّةِ بألفاظٍ تُغايرُ ألفاظَ النُّحاةِ لها، فذَكَرَ الفارابيُّ مُصطلحَ (الكلم)، وهو الذي يُسمَّيه علماءُ العربيةِ (الأفعال). والأفعالُ عنده قسمانِ: هما الماضي والمضارعُ، ولم يَذكرْ صيغةَ الأمرِ، وهذا يُوضِّحُ أنَّه لا يَعدَّها من تقسيماتِ الأفعالِ.

3/ يَعْتقدُ الفارابيُّ أنَّ علماءَ النَّحوِ العرب لم يُفردُوا لكلِّ صنفٍ من أصنافِ الحروفِ اسماً يخُصُّه، فاستعملَ في تعديدِ أصْنَافِها الأساميَ التي تأدَّتْ إلى بلادِ العَرَبِ عن أهلِ العلمِ بالنَّحوِ من أهلِ اللسانِ اليوناني، فصِنفٌ منها يُسمُّونَهُ الخَوالفَ، وصِنفٌ منها يُسمُّونَهُ الواصلاتِ، وصِنفٌ منها يُسمَّونَهُ الواسطةَ، وصِنفٌ منها يُسمَّونَهُ الحواشي، وصِنفٌ منها يُسمَّونَهُ الروابطَ.

4/ ارْتَضَى الفارابيُّ مُصطَلَحَ (الأقاويل) على الجُمَلِ، وذَكَرَ اصطلاحاتِ النُّحاةِ في رُكني الجملةِ، المُسندِ والمُسندِ إليه، أو الخبرِ والمُخْبَرِ عنه، إلَّا أنَّهُ يفضِّلُ استعمالَ مصطلحاتٍ قريبةٍ إلى المفهومِ الوصفي لِرُكني الجملةِ عند المناطقة، فيستعملُ مُصطلحَ (الموصوف) أو (الموضوع) للمبتدأ، ومُصطلحَ (الصفة) أو (المحمول) للخبرِ.

5/ أَوْضَحَ البحثُ تحليلَ الفارابي عِلاقة اقترانِ الخبرِ بالمبتدأ، وبقوله هو: اقترانُ الصِّفةِ بالموصوفِ، تَبَعاً لفهمٍ فلسفيٍّ بأنَّ ارتباطَ الأمورِ في النَّفسِ يَسْبِقُ ارتباطها في اللسانِ، إذ اللسانُ كاشفٌ عن ارتباطِهَا أوَّلاً في النَّفسِ، ثُمَّ تظهَرُ للعيانِ، فالوجودُ الذهنيُّ لمعاني الألفاظِ وارتباطِهَا، وتناسقِ العلاقاتِ بينها، سَابقٌ لوجودِهَا اللفظي، إذ لا يُمكنُ تكوينُ جُمَلٍ وإنشاءُ تراكيبٍ في ألفاظِ اللسانِ ما لم يَكُنْ هذا حقيقةً عن حقيقةِ تكوينِهَا العَقلي.

6/ كَشَفَ البحثُ أنَّ سَبَبَ توظيفِ الفارابي للمصطلحاتِ المنطقيَّةِ في تحليلِهِ النَّحوي هو التشابُهُ بَيْنَ علمي النَّحوِ والمنطقِ، وهو أنَّ صِناعَةَ النَّحوِ تُفِيدُ العلمَ بِصوابِ مَا يُلْفَظُ به، وصناعَةَ المنطقِ تُفِيْدُ العلمَ بِصوابِ ما يُعقَل.